الشاعر الطبيب الداعية مأمون الشقفة


( 1936 – 2012 م )

لا تقاس الأوطان بالمساحات ، وإنما تقاس بالرجال الذين يثمنون الأوطان ، و”حماة” التي يتنزه اسمها على ضفة الروح ، رسمته بأنامل العلم طبيباً ماهراً ، وشاعراً غريداً ، وقرأته قلعةً وبيوتاً ومساجد ، وجنةً يجري من تحتها العاصي، وأرسلته عبقرياً لينشر العلم داخلها وخارجها ، كي يعم الخير كثيراً من الناس ، أبت في نهاية المطاف إلا أن تعيده إليها كي يقضي ما تبقى له من عمر بين رحابها بعد أن بلَّغَ رسالتها .

إنه الأستاذ الدكتور ” مأمون الشقفة ” الطبيب الذي ذاع علمه الديني والدنيوي أرجاء الوطن ، وأسر بعلمه وتواضعه عقول وقلوب من عرفه أو سمع عنه .

تحدث عنه صديقه الدكتور “مسعف الشيخ خالد” رئيس جمعية “العاديات” في حفل تكريمي كبير ضم لفيفاً من الأطباء والأدباء والشعراء والوجهاء أقيم في “حماة” في (8/10/2009) قائلاً :

ولد الدكتور “مأمون الشقفة” في (30/9/1936 م ) في حي “الشرقية” بـ”حماة” في بيت عربي واسع، ودرس الابتدائية والإعدادية في المدرسة “المحمدية الشرعية” وكانت وقتها مدرسة خاصة ، ثم انتقل في المرحلة الثانوية إلى مدرسة “ابن رشد” وتخرج فيها عام ( 1953 م) ، انتسب إلى كلية الطب بـ”دمشق” وتخرج فيها عام (1960 م) ، عاصر الأساتذة الكبار في كلية الطب هناك أمثال الدكتور “مروان المحاسني” الذي يشغل حالياً رئاسة مجمع اللغة العربية ، والدكتور “مدني الخيمي” والدكتور “أمين شورى” وغيرهم ، ومما يلفت النظر في دراسة الدكتور “مأمون” أنه كان الأول على أبناء صفه منذ المرحلة الابتدائية حتى تخرجه في كلية الطب، عمل بعد التخرج قائماً بالأعمال في قسم التوليد لمدة سنتين ، حيث كان العمل شاقاً ومجهداً حتى إنه كان لا يجد الوقت كي يقص شعر رأسه، حصل على شهادة الاختصاص عام (1964 م) وشغل منصب أمين سر جمعية “المولدين السوريين”، ثم عاد بعد خدمة العلم إلى “حماة” وعمل في المستشفى الوطني القديم في منطقة “الحاضر”.

وأضاف الدكتور مسعف الشيخ خالد قائلاً :

تعود معرفتي بالدكتور “مأمون” لعام (1966 م) حيث كنت أعمل طبيباً متمرساً في المستشفى الوطني، حيث كان ظاهرةً فريدةً من نوعه ، بشوش الوجه، خفيض الصوت، قليل الكلام ، ولا أتذكر أنه رفض لنا طلباً بالاستشارة ليلاً أو نهاراً، وأنا لا أنسى إلى الآن إحدى المريضات من قرية “اللطامنة” حين أصيبت بقصور كلوي حاد وكانت حسب المتعارف عليه آنذاك أنها شارفت على الموت بسبب تعذر العلاج، لكن الدكتور “مأمون” كان قد قرأ عن عملية “الرحم الصفاقي” والتي بدأ تطبيقها في بعض المستشفيات في أوروبا على استحياء، فسافر إلى “دمشق” وجلب المحلول اللازم للعملية من هناك، وأجرى لها تلك العملية ونجحت نجاحاً باهراً، ونجت تلك المريضة من الموت بإذن الله وبفضل الدكتور “مأمون”، وكانت هذه أول عملية تجرى في الشرق الأوسط من هذا النوع .

أما عن اختصاصه فقد أُرسل الدكتور “مأمون” إلى “بريطانيا” للحصول على شهادة عالية المستوى على حساب القنصلية البريطانية، وكانت مدة التحضير لهذه الشهادة ثلاث سنوات، لكن الدكتور “مأمون” حصل على تلك الشهادة العالمية في غضون (16) شهراً ثم عاد إلى “حماة”، وعندما علم وزير الصحة آنذاك بالشهادة التي يحملها الدكتور “مأمون”، طلب منه الانتقال إلى جامعة “دمشق” والتدريس فيها ، وبقي فيها إلى عام ( 1980 م ) حيث انتقل دولة الإمارات العربية المتحدة وعمل في مستشفى راشد بدبي ثم في مستشفى الوصل ، وأخيراً إلى كلية “دبي” الطبية للبنات، وعين عميداً للعلوم السريرية، وأدخل أساليب التعليم الحديثة، وأنشأ علماً دعي بـ”الطب الإسلامي” عني بكشف الظواهر الطبية بالقرآن والسنة، وألف في هذه المرحلة كتابه القيم ” القرار المكين ” ، وأحد أبحاث هذا الكتاب كان بعنوان “الصلب والترائب” حيث تناول تفسير الآية الكريمة ( يخرج من بين الصلب والترائب ) في سورة “الطارق”، حيث كان هذا التفسير هو الأول الذي يخرج بهذه الحلة العلمية الصحيحة .

وأما عن الدكتور الشاعر “مأمون الشقفة” قال الدكتور مسعف :

كانت البداية الشعرية للدكتور “مأمون الشقفة” في الصف العاشر، حيث كتب قصيدة قدمها للمجلة الطلابية، لكن هذه القصيدة رفضت بداعي “الركاكة”، بعد ذلك انقطع عن الشعر لفترة بسبب عمله في دار التوليد وهو مازال شاباً يحاول أن يثبت نفسه في هذه الدار التي كانت تعد من أهم المراجع العلمية في سورية، وطرق الدكتور “مـأمون” كل أبواب الشعر، واختص بالشعر الزوجي أو ما يسميه “الشعر الحلال”، وتحدث أيضاً في الشعر الديني، وكتب مجموعة شعرية أسماها “رمضانيات”، وأجاد فن الرثاء، ومن الممكن اعتبار أن أهم ما كتبه في هذا الباب هو رثاؤه للمرحوم الأستاذ “إبراهيم زعرور” الذي كان ملازماً له ويحفظ قسماً كبيراً من أشعاره – حتى عرف بأنه راوية شعر الدكتور مأمون الشقفة – وأيضاً ما قاله في رثاء المهندس “ماجد الأمير”، وكتب ديواناً في الدكتور “وجيه بارودي ” رحمه الله .

وامتاز شعر الدكتور “مأمون” بنوع من الدعابة الساخرة، وكثيراً ما دارت بينه وبين الشاعر “نبيل قصاب باشي” مساجلات شعرية تدور حول شعر كل منهما، وحول تنازعهما حب “حماة”، ولا يجب أن ننسى “الحنين” الذي أنضجته نار الغربة، حيث يقول بإحدى قصائده يحن إلى “حماة ” :

بغيركِ لن أموتَ إن استطعتُ/ وأنتِ بخاطري مهما صنعتُ

بنفسي “جامع السلطان” ليلاً / ودرسٌ عند بحرتِه وصوتُ

بنفسي أنْ يبلَّ الطينُ ثوبي      / بأطراف الأزِقَّة إنْ عَبَرْتُ

بنفسي “خَسَّةٌ” في شط عاصي / إذا أنهيتُ أضلعَها انتهيتُ

وألقى الشاعر “محمد منذر لطفي” قصيدة بهذه المناسبة أسماها (بطاقة تهنئة للصديق والشاعر والطبيب مأمون الشقفة في يوم تكريمه)، حيث يقول في مطلعها :

أخي مأمون أي أخ تكون    /    وأنت الطب والشعر الرصين

فأيام الدراسة ما أحيلى       /         ومدرسة هي الأم الحنون

لك الذكر المعطر والقوافي    /       لك الفكر الطليعي والرزين

فمثلك من تخلده القوافي        /          وتهواه الخوافق والعيون

أما صديق الدكتور وزميله في مسيرته الدراسية الدكتور “زهير مشنوق” فقد قال بهذه المناسبة :

إن الدكتور “مأمون الشقفة” هو توأمي ولكن من أم أخرى، فأنا وهو ولدنا في نفس الليلة، لكن هو ببدايتها وأنا في نهايتها، وتعرفت عليه في مدرسة “ابن رشد” في المرحلة الثانوية، وتقدمني بسنة في الجامعة حيث كان كالمعلم بالنسبة لي، كان الأول على دفعة الطب أيضاً وبمرتبة الشرف الأولى ، حيث كانت تمنح هذه المرتبة أيام الوحدة بين “سوريا” و “مصر”، وبعدها تخصص هو في التوليد وطب النساء في “انكلترة”، وأنا في طب الأطفال في “فرنسا”، وعدنا والتقينا في المستشفى الوطني في “حماة”، ثم انتقل إلى “دمشق” وعمل مدرساً في كلية الطب لمدة أحد عشر عاماً، وغادر إلى الإمارات في العام (1980) حيث عمل طبيب استشاري ثم رئيس لقسم التوليد وأمراض النساء في مستشفى “الوصل” في “دبي”، ثم عميدا للعلوم السريرية في كلية “طب البنات” في “دبي”، حيث قام بتدريس مادتي “التوليد” و “أمراض النساء”، ومادة أخرى هي “الطب الإسلامي”، وبقي في “دبي” إلى سن التقاعد واحتل فيها مكاناً علمياً بارزاً، وألف في هذه الفترة كتابه القيم “القرار المكين”، وأحد أبحاث هذا الكتاب كان بعنوان “الصلب والترائب” حيث تناول تفسير الآية الكريمة “يخرج من بين الصلب والترائب” في سورة “الطارق”، حيث كان هذا التفسير هو الأول الذي يخرج بهذه الحلة العلمية الصحيحة، وأنا اعترف لكم بأني مصاب بداء الحب لهذا الشخص، وادعوا الله أن لا يشفيني من هذا الداء .

أما عن تواضعه ، فعندما جاء دوره بالكلام في الحفل التكريمي وقف وشكر كل من شارك في هذا الحفل بكل تواضع وهدوء وقال هذه الأبيات الرائعة :

يكرمني الكرام ولست أدري      / على ماذا يكرمني الكرامُ

عجوز يستحق الدفن حياً           /     ولكن دفنه حياً حرامُ

وكلُّ تقاعدٍ وأْدٌ خفيٌّ               /    ولكن الحياة لها انتظامُ

أنا روحي الدروسُ ودــــــــــــ ون علمٍ وتعليمٍ فأيامي ظلامُ

إذا حاضرتُ غاب الربْوُ عني / وعاد لنبض قلبيَ الانتظامُ

وزال إذا بدا مني عُبوسٌ       / وأشرقَ في عيونيَ الابتسامُ

أشيخُ واستمر على دروسي   / وصوتي خافتٌ والرَّبْعُ ناموا

أأقبعُ بين مسبحَتي ووِرْدي    /   وفي عملي سجودي والقيامُ

لقد كُرِّمْتُ ليس لأن مثلي       /          يُكَرَّمُ بل لأنكمُ كرامُ

فشكراً ألفَ شكرٍ من ضلوعي / إلى مَنْ نظَّموا ولمَنْ أقاموا

وشكراً لمَنْ حضروا وشكراً     / لمن غابوا وعتبوا ولاموا

وأما عن حيائه فقد دعوتُه إلى حفل تكريم ووداع شيخنا وأستاذنا فضيلة الشيخ وهبي سليمان غاوجي الألباني الذي أقيم في بيت أخينا الحبيب زياد كحالة في دبي يوم الخميس / 22 / ربيع الأول / 1422 هـ / 14 / 6 / 2001 م وطلبت منه وقتئذٍ أن يهيأ بعض الأبيات الشعرية إن أراد ، وعندما دخلتُ إلى مكان الحفل سلمت عليه وسألته هل عندك شيء ؟؟ فأجاب بالنفي فسكتُ ، وعندما بدأنا الحفل وجاء دور السادة العلماء تكلم الدكتور محمد عجاج الخطيب وطلب منه شخصياً قصيدة شعرية فلم يمانع ثم قال : صدقوني أني أشعر بأني أقل بكثير من أن أتكلم في هذا المقام ، وأضاف قائلاً : سأحكي لكم حكاية :

من زمن وأنا في هذا البلد ، كان هناك رجل كبير في السن لحيته بيضاء وجهه منوَّرٌ ، كلما رأيتُه في المسجد أو في الطريق أجد لهفةً ومحبةً في قلبي له وحينما أسلم عليه أحاول أن أقبِّل يده ، فمرةً أنجح ومراتٍ لا أنجح ، ومرت السنون وسمعت بمجيء الشيخ وهبي سليمان غاوجي إلى الإمارات ، فلما التقيته فإذا هو الشخص الذي أحببته وكنت أحاول تقبيل يديه ، فأمام الشيخ الجليل اسمحوا لي أن أقول هذه الأبيات :

لو كان ظلُّكَ يُشترى يا سيدي لشريتُه بالمال كلِّه

ولزمتُه طولَ الحياة كظلِّه أو ظلِّ ظلِّه

إنا نعيش بعالمٍ فيه القليل من الجواهرْ

ما للكنوز النادراتِ إذاً تسافرْ

سافر فإنك ههنا في كلِّ قلبٍ من قلوب العاشقينْ

جاؤوا إليك مكرِّمين مودعينْ

 يتأملون النورَ في هذي العيونْ

يارب ما هذا الجمال على وجوه العابدين الذاكرينْ

هيا انظروا في وجهه شيخٌ كبيرٌ واهنٌ 

لكنه والله أجمل من نساء العالمين

ومن الحدائق والزهور ونزهة المتنزهين

يا سيدي ارفع يدك إلى السماء

امنن علينا بالدعاء

من أعذب الألحان في الدنيا دعاء الصالحين

ذلك الطبيب الذي قنع بغناه في العلم عن الغنى المادي والمناصب التي شغلها داخل سورية وخارجها، فهذا الطبيب يرى في العلم والتدريس المتعة الكبيرة التي ليس كمثلها شيء، فبعد ما يزيد عن الستين عاما في طلب العلم، والذي حقق منه الشيء الكبير، تقاعد وفضل قضاء ما تبقى له من عمره في “حماة” ليستعيد ذكرياته ويتفرغ لعائلته وأحفاده .

ومع بداية الثورة السورية المباركة رجع إلى الإمارات واستقر مع أبنائه وأحفاده ، إلى أن دخل في غيبوبةٍ عدةَ أيام حيث وافاه الأجل المحتوم صباح يوم السبت 10 / محرم / 1434 هـ الموافق / 24 / 11 / 2012 م في دبي بعد صراع مع المرض ، وقد غُسِّلَ وكُفِّنَ وصُلِّيَ عليه في مقبرة القوز بدبي ، وقد أمَّ المصلين عليه فضيلة الشيخ عبد الكريم تتان بحضور ابن عم المتوفى فضيلة الشيخ محمد بشير الشقفة حفظهما الله تعالى ، وجمع غفير من أصحاب الدكتور وأحبابه وأقاربه .

رحمك الله أبا شفيق ما أجمل مُحَيَّاك وخصوصاً لحيتك الناصعة البياض ، وما أجمل تواضعك ، وما أجمل حياؤك فقد كنت لا تنظر في غرفة العلاج إلى من أمامك رجلاً كان أو امرأةً ، فقد كانت عيونك في القلم والدفتر الذي أمامك وأنت تسمع شكوى كل مريض .

وكتبها نقلاً من موقع حماة من حفل جمعية العاديات بحماة في تكريم الدكتور مأمون الشقفة في شهر / 10 / 2009 م ، ثم أضاف إليها قصيدة الدكتور في حفل توديع وتكريم فضيلة الشيخ وهبي سليمان غاوجي حفظه الله بدبي

محمد ميسر بن الشيخ محمد بشير المراد

السبت / 17 / محرم الحرام / 1434 هـ / 1 / 12 / 2012 م

Scroll to Top