عظماء الرِّجال (الشَّهيد الدُّكتور صالح بن محمود قنباز)

(عظماء الرِّجال)
(الشَّهيد الدُّكتور صالح بن محمود قنباز)
لا يمكن لكاتب يكتب عن عظماء الرِّجال في مدينة حماة أن ينسى أو يتجاوز الشَّهيد الدُّكتور صالح قنباز، وخصوصًا إذا كان هذا الكاتب قد درس المرحلة الابتدائيَّة كلَّها في مدرسةٍ حملت اسمه في مِنطقة تلِّ الدَّبَّاغة، ولم تزل تحمل اسمه في مِنطقةٍ أخرى من البلد.
ولد الدكتور صالح بن محمود بن صالح قنباز وقيل (محمَّد صالح) في مدينة حماة عام 1885أو 1887م وتلقَّى تعليمه في مدارسها وفي حلقات العلم في مساجدها، فأتقن العربيَّة والأدب والقصَّة وعلوم الدِّين والقرآن الكريم، وشبَّ متديِّنًا مستقيمًا صالحًا موافقًا لحروف اسمه في الاستقامة والصَّلاح، ثمَّ درس الطِّبَّ في مدرسة دمشق الطِّبيَّة وحاز الشَّهادةَ منها قبل أن يسافر إلى أوربَّا ويتخصَّص في الأمراض الباطنة.
كان الدُّكتور صالح قنباز وطنيًّا بامتياز، فقد امتهن مهنة الطِّبِّ لخدمة أهل مدينته، وأسَّس مع ثلَّة من رفاقه مدرسة دار العلم والتَّربية، فاشترك معهم بشراء قصر العظم الأثريِّ في حماة، وجعله مقرًّا لهذه المدرسة الَّتي صار عميدَها، كما أسَّس مع فريق من إخوانه النَّادي العربيَّ فانتُخِب رئيسًا له، كما انتُخِب لعضويَّة المجلس البلديِّ فحقَّق لمدينة حماة عددًا من المشاريع العمرانيَّة الَّتي ما زالت تدين له بالفضل إلى يومنا هذا، ثمَّ انتُخِب عضوًا في لجنة توجيه الجهات في أوقاف حماة. وفي الرَّابع من نيْسان عام 1923م انتُخِب عضوًا في المَجمع العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وفي الرَّابع من تشرين الثَّاني عام 1924م قررت الجمعيَّة الآسيويَّة في باريس انتخابه عضوًا عاملًا في هيئتها المركزيَّة، وكان يُنتخب عضوًا في مجلس المعارف المحلِّيِّ في كلِّ دوْرَةٍ وذلك لاختصاصه بفنِّ التَّربية والتَّعليم.
سافر الدُّكتور صالح قنباز إلى عدَّة دول، فقد سافر في عام 1923م إلى فرنسا للبحث في المكتشفات الطِّبِّيَّة الحديثة فيها، ثم سافر من باريس إلى مصر وتعرف على عظمائها وعلمائها وزار معاهدها ومكاتبها واستشرف على آثارها، ليواصل سفره منها إلى الحجاز ويؤدِّى فريضة الحجِّ قبل أن يعود إلى مدينته حماة.
كان أهمّ ما يميِّز الدُّكتور صالح قنباز كرهه للاحتلال الفرنسيِّ ومقاومته للمحتلِّين بشتَّى وسائل المقاومة، فلمَّا نشبت ثورة حماة في الرابع من تشرين الأول عام 1925م لم يفارق الثُّوَّار المقاومين على الإطلاق، فباشر بتضميد جراح المصابين، وكان يعود الجرحى في بيوتهم تحت وابل الرَّصاص، ولم يعد إلى بيته في تلِّ الدَّبَّاغة إلَّا عصر يوم الاثنين، ولم يجلس إلَّا قليلًا حتى فوجئ بالجنود الفرنسيِّين يطوِّقون الحيَّ بأكمله، ويطلقون الرَّصاص على المارَّة فيه، وإذا بشخصٍ من ذوي قرباه أمام بيته يستنجد طالبًا إسعاف والده المصاب، فهبَّ مجيبًا داعي الواجب الدِّيني والإنسانيِّ والطِّبِّي وواجب القربى، ولكنَّه لم يكد يطلُّ برأسه من باب بيته حتى سقط على الأرض مصابًا برصاصتين في رأسه من يد جنديٍّ فرنسيٍّ حاقد آثمٍ لئيم، فقضى نحبه مضرَّجًا بدمائه، ولم يجرؤ أحدٌ على الاقتراب من جثته خوفا من إطلاق النَّار العشوائيِّ الذي كان لا يوفِّر أحدًا. ولمَّا خفَّت الوطأة وأظلم اللَّيل أدخله أهله إلى بيته، وفي صباح اليوم التَّالي لم يتمكَّن أحدٌ من الرِّجال أن يصل إلى البيت لدفنه، فحملته النِّساء إلى الزَّاوية الشَّرابيَّة، فدفن فيها في ثياب التي استشهد بها، حتى تسنَّى لأهله نقله فيما بعد إلى المقبرة الرَّسميَّة في باب البلد.
كان الفرنسيُّون بحصارهم لتلِّ الدَّبَّاغة متقصِّدين قتل الدُّكتور صالح قنباز لِما رأوه من خطورته عليهم، فدخلوا بعد قتله إلى بيته بهمجيَّة لم يعرف التَّاريخ لها مثيلًا، وحطَّموا الأبواب، وكسروا النَّوافذ والصَّناديق والمكتبات، ونهبوا كتبه ومخطوطاته النَّفيسة ومجموعاته الَّتي قضى حياته في جمعها وتأليفها وتدوينها…
كان الدكتور صالح قنباز مهتمًّا بالأدب العربيِّ، وله ولعٌ بنظم الشِّعر فقد نشطت قريحته خصوصًا في الأناشيد المدرسيَّة الَّتي أعانته في تحقيق رسالته التَّربويَّة والتَّعليميَّة، وقد ترجمه العالم المحقِّق السَّيِّد محبُّ الدِّين الخطيب في مجلة الزَّهراء فقال ما خلاصته: إنَّ الشَّهيد صالح قنباز هو من الطبقة الأولى من رجال الأمَّة العربيَّة علمًا وفضيلةً واندفاعًا في سبيل الإصلاح.
كتب الدكتور صالح قنباز كثيرًا من المقالات في الصُّحف والمجلَّات، ومن آثاره العِلْمية والأدبيَّة ترجمته عن الفرنسيَّة كتاب الدَّرس الابتدائيِّ في الفلسفة مع نظريَّات تاريخها تأليف (إميل نواراك) ناظر مجمع (بيجون)، وألَّف عدَّة كتب في العلوم الطبيعيَّة وحفظ الصِّحَّة والنَّباتات، ودروس الأشياء والاقتصاد للصفوف الثَّانوية، ورسالة في أصول تعليم (ألف باء)، وله رسالة في تجويد القراءة، وله في علم الفرائض كتابٌ أُلْحِق بآخره بحثٌفي أصول تقسيم الأراضي حسب القوانين الموضوعة أخيرًا، وقد بدأ في المدَّة الأخيرة من حياته بترجمة كتاب المستشرق المَجَري (غولدزيهر) في الإسلام وشريعته غير أنَّه لم يترجِم منه إلَّا أبحاثًا قليلة، والجدير بالذِّكر أنَّ مؤلَّفاته هذه فُقِدت مع العديد من المخطوطات في أثناء الحملة على بيته ولم تطبع بعد وفاته.
رحم الله الشَّهيد الدُّكتور صالح قنباز الذي عرف بصدقه وإخلاصه وتفانيه في سبيل دينه ووطنه وخدمة أهل بلده، فعلَّمنا بحقٍّ كيف يكون عظماء الرِّجال.
(عن مصادر متعدِّدة بتصرُّف)
محمد عصام علوش
3/2/2023م

Scroll to Top